فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري:

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)}
التفسير: في الأميين منسوب إلى أمة العرب أو إلى أم القرى. وقد مر سائر الوجوه في (الأعراف) في قوله: {النبيّ الأميّ} [الآية: 157] وباقي الآية مذكورة في (البقرة) و(آل عمران). والمراد بآخرين التابعون وحدهم أو مع تبع التابعين إلى يوم القيامة. ثمّ شبه اليهود الطاعنين في نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم حاملوا التوراة وحفاظها العارفون بما فيها من نعت نبيّ آخر الزمان بالحمار الحامل للأسفار أي الكتب الكبار لأنه لا يدري منها إلا ما مر بجنبيه من الكدّ والتعب. ومعنى {حملوا} كلفوا العمل بما فيها. ومحل {يحمل} جر صفة للحمار كما في قوله:
على اللئيم يسبني

وهذا مثل كل من علم علمًا يتعلق بعمل صالح ثم لم يعمل به. ثم قبح مثلهم بقوله: {بئس} مثلًا {مثل القوم الذين} وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه فقيل لهم: إن كان قولكم حقًا {فتمنوا الموت} ليكون وصولكم إلى دار الكرامة أسرع وقد مر مثله في أول (البقرة) إلا أنه قال هاهنا {ولا يتمنونه} وهناك ولن يتمنوه وذلك أن كليهما للنفي إلا أن {لن} أبلغ في نفي الاستقبال وكانت دعواهم هناك قاطعة بالغة وهي كون الجنة لهم بصفة الخلوص فخص الأبلغ بتلك السورة. ثم بين أن الموت الذي لا يجترؤن على تمنيه خيفة أن يؤاخذوا بوبال كفرهم فإنه ملاقيهم لا محالة. قال أهل النظم: قد أبطل الله تعالى قول اليهود في ثلاث: زعموا أنهم أولياء لله فكذبهم بقوله: {فتمنوا الموت} وافتخروا بأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم بالحمار يحمل أسفارًا، وباهوا بالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع لنا الجمعة. قال جار الله: يوم الجمعة بالسكون الفوج المجموع كضحكة للمضحوك منه، وضمَّ الميم تثقيل لها كما قيل في عسرة عسرة. قلت: ومما يدل على أن أصلها الكسون جمعها على جمع كقدرة وقدر. وفي الكشاف أن {من يوم الجمعة} بيان {إذا} وتفسير له. وأقوال: إن اليوم أعم من وقت النداء والعام. لإبهامه لا يصير بيانًا ظاهرًا فالأولى أن تكون {من} للتبعيض. والنداء الأذان في أول وقت الظهر، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل أقام للصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر على ذلك، حتى إذا كان عثمان وكثر الناس زاد مؤذنًا آخر، مؤذن على داره التي تسمى زوراء فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني، فإذا نزل أقام للصلاة.
وعن ابن عباس: إن أول جمعة في الإسلام بعد جمعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لجمعة أجتمعت بجواثى قرية من قرى البحرين من قرى عبد القيس وروي أن الأنصار بالمدينة اجتمعوا إلى أسعد بن زرارة. وكنيته أبو إمامة وقالوا: هلموا نجعل لنا يومًا نجتمع فيه فنذكر الله ونصلي فإن لليهود السبت وللنصارى الأحد فاجعلوه يوم العروبة، فصلّى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسموه يوم الجمعة لاجتمعاهم فيه، وأنزل الله تعالى آية الجمعة فهي أول جمعة كانت في الإسلام قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم المدينة مهاجرًا نزل قباء على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخمس وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامدًا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلّى الجمعة. وفضيلة صلاة الجمعة كثيرة منها ما ورد في الصحاح عن أبي هريرة «إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول مثل المبكر كمثل الذي يهدي بدنه ثم كالذي يهدي بقرة ثم كبشًا ثم دجاجة ثم بيضة فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر» وعنه صلى الله عليه وسلم: «من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ووقى فتنة القبر» وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر غاصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج. وقيل: أول بدعة أحدثت مع الإسلام ترك البكور إلى الجمعة. ولا تقام الجمعة عند أبي حنيفة إلا في مصر جامع وهو ما أقيمت فيه الحدود ونفذت فيه الأحكام. وقد يقال: ما يكون فيه نهر جار وسوق قائم وملك قاهر وطبيب حاذق. وعنده تنعقد بثلاثة سوى الإمام، وعند الشافعي لا تنعقد إلاّ بأربعين متوطنين. وأعذار الجمعة مشهورة في كتب الفقه. ومعنى السعي القصد دون العدو ومنه قول الحسن: ليس السعي على الأقدام ولكنه على النيات والقلوب.
وعن ابن عمر أنه سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي. قال العلماء: وهذا لا بأس به ما لم يجهد نفسه. قوله: {إلى ذكر الله} أي إلى الخطبة والصلاة وهي تسمية الشيء بأشرف أجزائه. ومذهب أبي حنيفة أنه لو اقتصر على كل ما يسمى ذكرًا مثل الحمد لله أو سبحان الله جاز.
وعند صاحبيه والشافعي لابد من كلام يسمى خطبة. وعن جابر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: «نحمد الله ونثني عليه بما هو أهله ثم يقول: من يهد الله فلا مضل له ومن يضلله فلا هادي له، إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار». وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان صلاته قصدًا وخطبته قصدًا. وعن أبي وائل قال: خطبنا عمار فأوجز وأبلغ فلما نزل قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن طول الصلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأقصر الخطبة وأطل الصلاة وإن من البيان لسحرًا». قوله: {وذروا البيع} خاص ولكنه عام في الحقيقة لكل ما يذهل عن ذكر الله. وسبب التخصيص أن أهل القرى وقتئذ يجتمعون من كل أوب في السوق وأغلب اجتماعهم على البيع والشراء.
ولا خلاف بين العلماء في تحريم البيع وقت النداء. وهل يصح ذلك البيع إن وقع الأكثرون؟ نعم لأن المنع غير متوجه نحو خصوص البيع. وإنما هو متوجه نحو ترك الجمعة حتى لو تركها بسبب آخر فقد ارتكب النهي ولو باع في غير تلك الحالة لم يصادفه نهي. قوله: {فانتشروا} وابتغوا إباحة بعد حظر. وعن بعض السلف أنه كان يشغل نفسه بعد الجمعة بشيء من أمور الدنيا امتثالًا للآية. وعن ابن عباس: لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة أخ في الله. وعن الحسن وسعيد بن المسيب: الطلب طلب العلم. وقيل: صلاة التطوع. وفي قوله: {واذكروا الله كثيرًا} إشارة إلى أن المرء لا ينبغي أن يغفل عن ذكر ربه في كل حال كما قال: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} [النور: 37] عن جابر قال: بينا نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا قيل: عير تحمل طعامًا فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلًا فنزلت {وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها} أي تفرقوا إليها {وتركوك قائمًا} في الصلاة أو في الخطبة أو في الزاوية، وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق فهذا هو المراد باللهو والتقدير إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوًا انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. يروى أنه صلى الله عليه وسلم وآله قال: «والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعًا لأضرم الله عليهم الوادي نارًا». ثم حث على تجارة الآخرة وعلى تيقن أن لا رازق بالحقيقة إلا هو سبحانه وقد مر مرارًا. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

سورة الجمعة مدنية.
وهي إحدى عشرة آية.
ومائة وثمانون كلمة.
وسبعمائة وعشرون حرفًا.
روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» وعنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب الأول من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فهدانا الله تعالى لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له» وقال يوم الجمعة: «فاليوم لنا، وغدًا لليهود، وبعد غد للنصارى».
{بسم الله} الذي أحاط علمه بكل معلوم فتم بيانه {الرحمن} الذي تمت نعمة بيانه فهو العظيم شأنه {الرحيم} الذي خص حزبه بالتوفيق فثبت عندهم حبه وإيمانه. {يسبح} أي: يوقع التنزيه الأعظم الأنهى الأكمل {لله} أي: الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا {ما في السموات} أي: من جميع الأشياء من الملائكة وغيرها كالأفلاك والنجوم {وما في الأرض} كذلك من الآدميين وغيرهم كالشجر والثمار، وقيل: اللام مزيدة، أي: ينزه الله وأتى بما دون من، قال الجلال المحلي: تغليبًا للأكثر، ويحتمل أن يكون المراد بالسماء جهة العلو فيشمل السماء وما فيها، وبالأرض جهة السفل فيشمل الأرض وما فيها {الملك} أي: الذي ثبت له جميع الكمالات، فهو ينصر من يشاء من جنده ولو كان ذليلًا فيصبح ظاهرًا {القدوس} أي: المنزه عما لا يليق به، وعن إحاطة أحد من الخلق بعلمه وإدراك كنه ذاته فليس في أيدي الخلق إلا التردد في شهود أفعاله والتدبير لمفاهيم نعوته وجلاله وأحقهم بالقرب والعداد في حزبه المتخلق بأوصافه على قدر اجتهاده، فينبغي للمؤمن التنزه عن أن يقول مالا يفعل، أو يبني شيئًا من أموره على غير إحكام {العزيز} أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} أي: الذي يوقع كل ما أراد في أحكم مواقعه وأتمها وأتقنها.
{هو} أي: وحده {الذي بعث في الأميين} أي: العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرؤون، والأمي: من لا يقرأ ولا يكتب {رسولًا منهم} أي: من جملتهم أميًا مثلهم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم وما من حي من العرب إلا وله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة، وقد ولدوه. قال ابن إسحاق: إلا بني تغلب فإن الله تعالى طهر نبيه صلى الله عليه وسلم منهم فلم يجعل لهم عليه ولادة، وكان أميًا لم يقرأ من كتاب ولم يتعلم صلى الله عليه وسلم علمه الله ما لم يكن يعلم من غير تطلب، فكانت آثار البشرية عنه مندرسة وأنوار الحقائق علية لائحة، وذلك لئلا يتوهم الافتقار إلى الاستعانة بالكتب لأن مشاكلته لحال من بعث فيهم أقرب إلى مساواتهم له لو أمكنهم فيكون معنى عدم إمكان المساواة أدل على الإعجاز، وبعثه إلى العرب لا ينفي بعثه إلى غيرهم لاسيما مع ما ورد فيه من صرائح الدلائل القطعية، فذكر موضع البعث وابتداءه فتكون الغاية مطلقة تقديرها إلى عامة الخلق {يتلو} أي: يقرأ قراءة يتبع بعضها بعضًا على وجه الكثرة والعلو والرفعة {عليهم} مع كونه أميًا مثلهم {آيات} أي: يأتيهم بها على سبيل التجدد والمواصلة، وهي القرآن الذي أعجز الجن والإنس أن يأتوا بسورة من مثله {ويزكيهم} أي: يطهرهم من الشرك والأخلاق الرذيلة، والعقائد الزائغة فكانت تزكيته لهم مدة حياته بنظره الشريف إليهم، وتعليمه لهم وتلاوته عليهم، فربما نظر الإنسان نظرة محبة فزكاه الله تعالى بها بحسب القابليات والأمور التي قضى الله تعالى أن تكون مهيآت فكان له أعشق فكان لأتباعه ألزم فكان في كتاب الله وسنته أرسخ {ويعلمهم الكتاب} أي: القرآن المنزل عليه الجامع لكل خير ديني ودنيوي في الأولى والأخرى {والحكمة} هي غاية الحكم للكتاب في قوة فهمه والعمل به فهي العمل المزين بالعلم المتقن به، وقال الحسن: {الكتاب}: القرآن، و{الحكمة}: السنة. وقال ابن عباس: {الكتاب} الخط بالقلم، و{الحكمة}: السنة، لأن الخط إنما فشا في العرب بالشرع لما أمروا بالتقييد بالخط. وقال مالك بن أنس: {الحكمة}: الفقه في الدين {وإن} أي: والحال أنهم {كانوا} أي: كونًا هو كالجبلة لهم {من قبل} أي: قبل إرساله إليهم {لفي ضلال} أي: بعد عن المقصود {مبين} أي: ظاهر في نفسه مناد لغيره أنه ضلال باعتقادهم الأباطيل الظاهرة، وظنهم أنهم على شيء، وعموم الجهل لهم ورضاهم به واختبارهم له.
وقوله تعالى: {وآخرين منهم} فيه وجهان: أحدهما: أنه مجرور عطفًا على {الأميين}، أي: وبعث في الآخرين من الأميين، أي: الموجودين والآتين منهم بعدهم {لما} أي: لم {يلحقوا بهم} في السابقة والفصل والثاني: أنه منصوب عطفًا على الضمير المنصوب في يعلمهم، أي: ويعلم آخرين لما يلحقوا بهم وسيلحقون، وكل من تعلم شريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى آخر الزمان فرسول الله صلى الله عليه وسلم معلمه بالقوة، لأنه أصل ذلك الخير العظيم والفضل الجسيم.
تنبيه:
{الذين لم يلحقوا بهم} هم الذين لم يكونوا في زمنهم وسيجيئون بعدهم. قال عمر وسعيد بن جبير: هم العجم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: «كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه سورة الجمعة فلما قرأ: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثًا، قال: وفينا سلمان الفارسي، قال: فوضع النبي صلى الله علية وسلم يده على سلمان ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجل من هؤلاء» وفي رواية «لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجال من فارس» أو قال: من أبناء فارس حتى يتناوله. وقال عكرمة: هم التابعون، وقال مجاهد: هم الناس كلهم، يعني: من بعد العرب الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم وقال ابن زيد، ومقاتل بن حبان: هم من دخل في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.
وروى سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في أصلاب أمتي رجالًا ونساء يدخلون الجنة بغير حساب، ثم تلا {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم}» قال ابن عادل: والقول الأول أثبت. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيتني أسقي غنمًا سودًا، ثم أتبعتها غنمًا عقرأ أولها يا أبا بكر، قال: يا نبي الله أما السود فالعرب، وأما العقر فالعجم تتبعك بعد العرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كذلك أولها الملك يعني جبريل عليه الصلاة والسلام» رواه ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. {وهو} أي: والحال أنه وحده {العزيز} أي: الذي يقدر على كل ما أراده، ولا يغلبة شيء فهو يزكي من يشاء ويعلمه ما أراد من أي طائفة كان، ولو كان أجهل أهل تلك الطائفة لأن الأشياء كلها بيده {الحكيم} فهو إذًا أراد شيئًا موافقًا لشرعه وأمره جعله على أتقن الوجوه وأوثقها، فلا يستطاع نقضه ومهما أراده كيف كان فلابد من إنفاذه فلا يطاق ردة بوجه.
ولما كان هذا أمرًا باهرًا عظمه بقوله تعالى على وجه الاستثمار من قدرته: {ذلك} الأمر العظيم الرتبة من تفضيل الرسول وقومه، وجعلهم متبوعين بعد أن كان العرب أتباعًا لا وزن لهم عند غيرهم من الطوائف {فضلُ الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال والفضل ما لم يكن مستحقًا بخلاف الفرص {يؤتيه من يشاء} قال ابن عباس: حيث ألحق العجم بقريش، وقال الكلبي: يعني الإسلام فضل الله يؤتيه من يشاء، وقال مقاتل: يعني الوحي والنبوة.
وقيل: إنه المال ينفق في الطاعة لما روى أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ فقالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون، وتكبرون، وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة، قال أبو صالح فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا من أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» وقيل: إنه انقياد الناس إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ودخولهم في دينه ونصرته {والله} الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا {ذو الفضل العظيم}.
ولما ترك اليهود العمل بالتوراة ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ضرب الله تعالى لهم مثلًا بقوله تعالى: {مثل الذين حملوا التوراة} أي: كلفوا وألزموا حمل الكتاب الذي آتاه الله تعالى لبني إسرائيل على لسان موسى عليه الصلاة والسلام، بأن علمهم إياها سبحانه وكلفهم حفظ ألفاظها عن التغيير والنسيان ومعانيها عن التحريف والتلبيس، وحدودها وأحكامها عن الإهمال والتضييع {ثم لم يحملوها} أي: بأن حملوا ألفاظها ولم يعملوا بما فيها من الوصية باتباع عيسى عليه الصلاة والسلام إذا جاءهم، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا جاء فهي ضارة لهم بشهادتها عليهم فإذا لهم النار من غير نفع أصلًا {كمثل} أي: مثلهم مثل {الحمار} أي: الذي هو أبلد الحيوان فهو مثل في الغباوة حال كونه {يحمل أسفارًا} أي: كتبًا كبارًا من كتب العلم جمع سفر، وهو الكتاب الكبير المسفر عما فيه، في عدم الانتفاع بها لأنه يمشي ولا يدري منها إلا ما يضر بجنبيه وظهره من الكد والتعب، وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله ومثل ذلك قول الشاعر:
زوامل للأسفار لا علم عندهم ** بجيدها إلا كعلم الأباعر

لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ** بأحماله أو راح ما في الغرائر

من إنشاد الشيخ ابن الخباز. {بئس مثل القوم} أي: الذين لهم قوة شديدة على محاولة ما يريدون {الذين كذبوا} أي: محمدًا على علم {بآيات الله} أي: دلالات الملك الأعظم على رسوله، ولاسيما محمد صلى الله عليه وسلم والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هذا المثل {والله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {لا يهدي القوم} أي: لا يخلق الهداية في قلوب الذين تعمدوا الزيغ {الظالمين} أي: الذين تعمدوا الظلم بمنابذة الهدى الذي هو البيان، الذي لم يدع لبسًا حتى صار الظلم لهم صفة راسخة.
ولما ادعت اليهود الفضيلة وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه نزل قوله تعالى: {قل} أي: يا أشرف الرسل {يا أيها الذين هادوا} أي: تدينوا باليهودية {إن زعمتم} أي: قلتم قولا هو معرض للتكذيب، ولذلك أكذبتموه {إنكم أولياء لله} أي: الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه خصكم بذلك خصوصية مبتدأة {من دون} أي: أدنى رتبة من رتب {الناس} فلم تنفذ الولاية، وتلك الرتبة في الدنيا إلى أحد منهم غيركم بل خصكم بذلك عن كل من فيه أهلية الحركة لاسيما الأميين {فتمنوا الموت} وأخبروا عن أنفسكم بذلك للنقلة من دار البلاء إلى محل الكرامة والآلاء {إن كنتم} أي: كونًا راسخًا {صادقين} أي: غريقين عند أنفسكم في الصدق، فإن من علامات المحبة الاشتياق إلى المحبوب، ومن المقطوع به أن من كان في كدر وكان له ولي قد وعده عند الوصول إليه الراحة التي لا يشوبها ضرر تمنى النقلة إلى وليه. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم «والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه فلم يقلها منهم أحد علمًا منهم بصدقه صلى الله عليه وسلم فلم يقولوا ولم يؤمنوا عنادًا منهم».
ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يتمنونه في المستقبل أيضًا بقوله تعالى: {ولا يتمنونه} أي: في المستقبل {أبدًا بما قدمت أيديهم} أي: بسبب ما قدموا من الكفر والمعاصي التي أحاطت به فلم تدع لهم حظًا في الآخرة.
تنبيه:
قال تعالى هنا: {ولا يتمنونه} وفي البقرة {ولن يتمنوه} [البقرة]
قال الزمخشري: لا فرق بين لا ولن في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل، إلا أن في لن تأكيدًا وتشديدًا ليس في لا فأتى مرة بلفظ التأكيد {ولن يتمنوه} ومرة بغير لفظه {ولا يتمنونه} قال أبو حيان: وهذا رجوع منه عن مذهبه وهو أن لن تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة، وهي أنها لا تقتضيه. قال بعضهم: وليس فيه رجوع، غاية ما فيه أنه سكت عنه، وتشريكه بين لا ولن في نفي المستقبل لا ينفي اختصاص لن بمعنى آخر ا. ه. ودعواهم الولاية إلى التوسل إلى الجنة لا يلزم منها الاختصاص بالنعم بدليل أن الدنيا ليست خالصة للأولياء المحقق لهم الولاية بل البر والفاجر مشتركون فيها. {والله} أي: الذي له الإحاطة بكل شيء قدرة وعلمًا {عليم} بالغ العلم محيط بهم هكذا كان الأصل ولكنه تعالى قال: {بالظالمين} تعميمًا وتعليقًا بالوصف لا بالذات، فالمعنى أنه عالم بأصحاب هذا الوصف الراسخين فيه منهم ومن غيرهم، فهو مجازيهم على ظلمهم.
{قل} أي: لهؤلاء يا أشرف الرسل {إن الموت الذي تفرون منه} بالكف عن التمني {فإنه ملاقيكم} أي: لا تفوتونه لاحق بكم.
تنبيه:
في هذه الفاء وجهان: أحدهما: إنها داخلة لما تضمنه الاسم من معنى الشرط، وحكم الموصوف بالموصول حكم الموصول في ذلك. قال الزجاج: لا يقال: إن زيدًا فمنطلق، وهاهنا قال: {فإنه ملاقيكم} لما في معنى الذي من الشرط أو الجزاء، أي: إن فررتم منه فإنه ملاقيكم، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه. الثاني: إنها مزيدة محضة لا للتضمن المذكور.
ولما كان الحبس في البرزخ أمرًا لابد منه مهولًا نبه عليه وعلى طوله بأداة التراخي فقال تعالى: {ثم تردون إلى عالم الغيب} أي: السر {والشهادة} أي: العلانية، أو كل ما غاب عن الخلق، وكل ما شوهد {فينبئكم} أي: يخبركم إخبارًا عظيمًا مستقصى مستو في {بما كنتم} أي: بما هو لكم كالجبلة {تعملون} أي: بكل جزء منه بما برز إلى الخارج، وبما كان في جبلاتكم ولو بقيتم لفعلتموه ليجازيكم.
{يا أيها الذين أمنوا} أي: أقروا بألسنتهم بالإيمان {إذا نودي} أي: من أي مناد كان من أهل النداء {للصلاة} أي: صلاة الجمعة {من} أي: في {يوم الجمعة} كقوله تعالى: {أروني ماذا خلقوا من الأرض} [فاطر]
أي: في الأرض، والمراد بهذا النداء الأذان عند قعود الإمام على المنبر للخطبة، لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه، كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر أذن بلال، وعن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثاني على الدور، زاد في رواية فثبت الأمر على ذلك.
وعن أبي داود قال: كان يؤذن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يوم الجمعة على المنبر على باب المسجد، روي أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد، فإذا نزل أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر وعلي بالكوفة على ذلك حتى إذا كان عثمان، وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد أذانًا آخر، فأمر بالتأذين الأول على داره التي تسمى زوراء، فإذا سمعوا أقبلوا حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذن الأذان الثاني الذي كان على زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا نزل أقام الصلاة، فلم يعب ذلك عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي».
قال الماوردي: أما الأذان الأول فمحدث فعله عثمان بن عفان ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها، وكان عمر أمر أن يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن سوقهم، فإذا اجتمعوا أذن في المسجد فجعله عثمان أذانين في المسجد. قال ابن العربي: وفي الحديث الصحيح: «أن الأذان كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا، فلما كان زمن عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء»، وسماه في الحديث ثالثًا لأنه أضافه إلى الإقامة، كقوله صلى الله عليه وسلم: «بين كل إذانين صلاة لمن شاء» يعني: الأذان والإقامة، وتوهم بعض الناس أنه أذان أصلي فجعلوا المؤذنين ثلاثة. قال ابن عادل: فكان وهمًا، ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهمًا على وهم.
واختلفوا في تسمية هذا اليوم جمعة فمنهم من قال: لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم عليه الصلاة والسلام. روى مالك عن أبن هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم عليه الصلاة والسلام، وفيه أهبط، وفيه مات وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وهو عند الله يوم المزيد» وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل وفي كفه مرآة بيضاء، وقال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيدًا ولأمتك من بعدك، وهو سيد الأيام عندنا، ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد» ومنهم من قال: لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فاجتمعت فيه المخلوقات، ومنهم من قال: لاجتماع الجماعات فيه للصلاة، وقيل: أول من سمى هذا اليوم جمعة كعب بن لؤي.
قال أبو سلمة: أول من قال أما بعد: كعب بن لؤي، وكان أول من سمى الجمعة جمعة، وكان يقول له: يوم العروبة. وعن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموها الجمعة. وقيل: إن الأنصار قالوا لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك، فهلموا نجعل لنا يومًا نجتمع فيه فنذكر الله تعالى فيه ونصلي، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين، وذكرهم فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، ثم أنزل الله تعالى آية الجمعة فهي أول جمعة كانت في الإسلام.
وروي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة، قال: لأنه أول من جمع بنا في هزم النبت من حرة بني بياضة في بقيع يقال له: بقيع الخضمان، قلت له: كم كنتم يومئذٍ، قال: أربعين. أخرجه أبو داوود.
وأما أول جمعة جمعها النبي صلى الله عيه وسلم بأصحابه، فقال أهل السير: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرًا نزل قباء على بني عمرو بن عوف يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، حين اشتد الضحى ومن تلك السنة يعد التاريخ، فأقام بها إلى يوم الخميس وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامدًا المدينة، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجدًا، فجمع بهم وخطب وهي أول خطبة خطبها بالمدينة.
وقال فيها: «الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره، وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفر به، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق، والنور والموعظة، والحكمة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة وقرب من الأجل. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى وفرط، وضل ضلالًا بعيدًا أوصيكم بتقوى الله فإن خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، واحذروا ما حذركم الله من نفسه فإن تقوى الله لمن عمل بها على وجل ومخافة من ربه عنوان صدق على ما تبغون من الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية لا ينوي به إلا وجه الله يكون له ذكرًا في عاجل أمره، وذخرًا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان مما سوى ذلك {يود لو أن بينه وبينه أمدًا بعيدًا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد} [آل عمران]
وهو الذي صدق قوله وأنجز وعده لا خلف لذلك، فإنه يقول: {ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} [ق]
فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عن سيئاته ويعظم له أجرًا {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا} [الأحزاب]
وإن تقوى الله توقي مقته، وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضي الرب، وترفع الدرجة فخذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله فقد علمكم في كتابه، وأوضح لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين وأحسنوا كما أحسن الله إليكم وعادوا أعداءه وجاهدوا في الله حق جهاده {هو اجتباكم} و{سماكم المسلمين} [الحج] ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حيّ عن بينة ولا حول ولا قوة إلا بالله فأكثروا ذكر الله تعالى واعملوا لما بعد الموت، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»
.
قال بعضهم: قد أبطل الله تعالى قول اليهود في ثلاث افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه، فكذبهم في قوله: {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم الله بالحمار يحمل أسفارًا وبالسبت وإنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله تعالى لهم يوم الجمعة.
تنبيه:
سمى الله تعالى الجمعة ذكرًا له، قال أبو حنيفة: إن اقتصر الخطيب على مقدار يسمى ذكر الله كقوله: الحمد لله سبحان الله جاز، وعن عثمان أنه صعد المنبر فقال: الحمد لله؛ فارتج عليه، فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا، وإنكم إلى أمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال، وستأتيكم الخطب، ثم نزل وكان ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكر عليه أحد.
وعند صاحبيه والشافعي لابد من كلام يسمى خطبة، ولها أركان وشروط مذكورة في الفقه.
فإن قيل: كيف يفسر ذكر الله بالخطبة، وفيها ذكر غير الله؟
أجيب: بأن ما كان من ذكر رسوله والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين، وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله، وأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم، وهم أحق بعكس ذلك فمن ذكر الشيطان.
وهو من ذكر الله على مراحل فإن المنصت للخطبة إذا قال لصاحبه: صه فقد لغا، أفلا يكون الخطيب المغالي في ذلك لاغيًا نعوذ بالله من غربة الإسلام، ومن نكد الأيام وقد خاطب الله تعالى المؤمنين بالجمعة دون الكافرين تشريفًا لهم وتكريمًا، فقال: {يا أيها الذين آمنوا} ثم خصه بالنداء وإن كان قد دخل في عموم قوله تعالى: {وإذا ناديتم إلى الصلاة} ليدل على وجوبه وتأكد فرضه. وقال بعض العلماء: كون الصلاة الجمعة هاهنا معلوم بالإجماع لا من نفس اللفظ، وقال ابن العربي: وعندي إنه معلوم من نفس اللفظ بنكتة، وهي قوله تعالى: {من يوم الجمعة} وذلك يفيده لأن النداء الذي يختص بذلك اليوم هو نداء تلك الصلاة، وأما غيرها فهو عام في سائر الأيام، ولو لم يكن المراد به نداء الجمعة لما كان لتخصيصه بها وإضافته إليها معنى فلا فائدة فيه.
واختلف في معنى قوله تعالى: {فاسعوا} أي: لتكونوا أولياء الله ولا تتهاونوا في ذلك. فقال الحسن: والله ما هو سعي على الأقدام، ولكن سعي بالقلوب والنية، وقال الجمهور: السعي: العمل لقوله تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن} [الإسراء]
كقوله تعالى: {إن سعيكم لشتى} [الليل]
وقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم]
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن أئتوها تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» واختلفوا أيضًا: في معنى قوله تعالى: {إلى ذكر الله} أي: الملك الأعظم، فقال سعيد بن المسيب: هو موعظة الإمام، وقال غيره: الخطبة والصلاة المذكرة بالملك الأعظم الذي من انقطع عن خدمته هلك.
ولما أمر بالمبادرة إلى تجارة الآخرة قال تعالى ناهيًا عن تجارة الدنيا التي تعوق عن الجمعة {وذروا البيع} أي: اتركوا البيع والشراء؛ لأن اسم البيع يتناولهما جميعًا، وإنما يحرم البيع والشراء عند الأذان الثاني. وقال الزهري: عند خروج الإمام، وقال الضحاك: إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء. وإنما خص البيع من بين الأمور الشاغلة عن ذكر الله تعالى، لأن يوم الجمعة يوم تهبط الناس فيه من بواديهم وقراهم، وينصبون إلى المصر من كل أوب ووقت هبوطهم واجتماعهم، واختصاص الأسواق إذا انتفخ النهار وتعالى الضحى، ودنا وقت الظهيرة وحينئذ تنجز التجارة ويتكاثر البيع والشراء، فلما كان ذلك الوقت مظنة للذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى المسجد قيل: بادروا تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، واسعوا إلى ذكر الله {ذلكم} أي: الأمر العالي الرتبة من فعل السعي، وترك الاشتغال بالدنيا {خير لكم} لأن الأمر الذي أمركم به الذي له الأمر كله، وهو يريد تطهيركم في أديانكم وأبدانكم وأموالكم وبيده إسعادكم وإشقاؤكم.
فإن قيل: إذا كان البيع في هذا الوقت محرمًا فهل هو فاسد؟.
أجيب: بأن عامة العلماء على أن ذلك لا يوجب فساد البيع، قالوا: لأن البيع لم يحرم لعينه، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة، والثوب المغصوب، والوضوء بماء مغصوب، وعن بعض الناس أنه فاسد. وزاد في الحث على ذلك بقوله تعالى: {إن كنتم} أي: بما هو لكم كالجبلة {تعلمون} أي: يتجدد لكم علم في يوم من الأيام فأنتم ترون ذلك خيرًا، فإذا علمتموه خيرًا أقبلتم عليه فكان ذلك خيرًا لكم وصلاة الجمعة فرض عين تجب على كل من جمع الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورة، والإقامة، إذا لم يكن له عذرًا مما ذكره الفقهاء، ومن تركها استحق الوعيد. قال صلى الله عليه وسلم: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله تعالى على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين» وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاونًا بها طبع الله تعالى على قلبه» قال ابن عادل: ونقل عن بعض الشافعية أن الجمعة فرض على الكفاية، أما من به عذر يعذر به في ترك الجماعة مما يتصور هنا فلا تجب عليه، وتجب على أعمى وجد قائدًا وشيخ هرم وزمن وجدا مركبًا لا يشق ركوبه عليهما.
واختلف أهل العلم في موضوع إقامة الجمعة، وفي العدد الذي تنعقد به الجمعة، وفي المسافة التي يجب أن يؤتى منها، فذهب قوم إلى أن كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلًا بالصفة المتقدمة تجب عليهم إقامة الجمعة فيها، وهو قول عبد الله بن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال الشافعي، وأحمد، وإسحاق قالوا: لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلًا على هذه الصفة، وشرط عمر بن عبد العزيز مع الأربعين أن يكون فيهم وال.
وعند أبي حنيفة تنعقد بأربعة، والوالي شرط، ولا تقام عنده إلا في مصر جامع. وقال الأوزاعي وأبو يوسف: تنعقد بثلاثة إن كان فيهم وال. وقال الحسن، وأبو ثور: تنعقد باثنين كسائر الصلوات، وقال شعبة: تنعقد باثني عشر رجلًا ولا تجب الجمعة على أهل البوادي إلا إذا سمعوا النداء من موضع تقام فيه الجمعة، فيلزمهم الحضور، وإن لم يسمعوا فلا جمعة عليهم، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق.
والشرط أن يبلغهم نداء مؤذن جهوري الصوت في وقت تكون الأصوات هادئة، والرياح ساكنة فكل قرية تكون من موضع الجمعة في القرب على هذا القدر يجب على أهلها حضور الجمعة. وقال سعيد بن المسيب: تجب الجمعة على من آواه المبيت. قال الزهري: تجب على من كان على ستة أميال وقال ربيعة: على أربعة أميال، وقال مالك والليث: على ثلاثة أميال، وقال أبو حنيفة: لا جمعة على أهل البوادي سواء كانت القرية قريبة أم بعيدة.
دليل الشافعي ومن وافقه ما روى البخاري عن ابن عباس: «أن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجؤانا من البحرين»، ولأبي داود نحوه، وفيه «بجؤانا قرية من قرى البحرين».
تنبيه:
فضل يوم الجمعة مشهور وأحاديثه كثيرة مشهورة تقدم بعضها، ومنها: «أن الله يعتق في كل جمعة ستمائة عتيق من النار»، وعن كعب: إن الله تعالى فضل من البلدان مكة، ومن الشهور رمضان، ومن الأيام الجمعة. وقال صلى الله عليه وسلم: «من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد، ووقي فتنة القبر» وفي الحديث «إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المساجد بأيديهم صحف من فضة، وأقلام من ذهب يكتبون الأول فالأول على مراتبهم» قال الزمخشري: وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج، وقيل: أول بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة. وعن ابن مسعود: أنه بكر فرأى ثلاثة نفر سبقوه فاغتم وأخذ يعاتب نفسه ويقول: أراك رابع أربعة، وما رابع أربعة بسعيد. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة- أي: مثل غسلها- ثم راح في الساعة الأولى كان كمن قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة كأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر» وروى النسائي «في الخامسة كالذي يهدي عصفورًا، وفي السادسة بيضة، فمن جاء في أول ساعة منها، ومن جاء في آخرها مشتركان في تحصيل البدنة مثلًا، لكن بدنة الأول أكمل من بدنة الآخر، وبدنة المتوسط متوسطة» وهذا في حق غير الإمام أما هو فيسن له التأخير إلى وقت الخطبة اتباعًا للنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، ويسن إكثار الدعاء يومها وليلتها، أما يومها فلرجاء أن يصادف ساعة الإجابة، وهي ساعة خفية وإرجاها من جلوس الخطيب إلى آخر الصلاة كما في خبر مسلم. قال النووي: وأما خبر: «يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة فيه ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر» فيحتمل أن هذه الساعة منتقلة تكون يومًا في وقت، ويومًا في آخر كما هو المختار في ليلة القدر.
وأما ليلتها فبالقياس على يومها، وقد قال الشافعي: بلغني أن الدعاء يستجاب في ليلة الجمعة، ويسن إكثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في يومها وليلتها لخبر: «أكثروا علي من الصلاة ليلة الجمعة ويوم الجمعة فمن صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا» وإكثار قراءة سورة الكهف يومها وليلتها لخبر: «من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق» وخبر: «من قرأها يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين» وفي هذا القدر كفاية.
ولما حث على الصلاة وأرشد إلى أن وقتها لا يصلح لطلب شيء غيرها بين لهم وقت المعاش بقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة} أي: وقع الفراغ منها على أيّ وجه كان {فانتشروا} أي: فدبوا وتفرقوا مجتهدين {في الأرض} أي: جميعها للتجارة والتصرف في حوائجكم إن شئتم لا جناح عليكم ولا حرج رخصة من الله تعالى لكم {وابتغوا} أي: اطلبوا الرزق {من فضل الله} أي: الذي بيده كل شيء ولا شيء لغيره، وهذا أمر إباحة كقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة]
قال ابن عباس: إن شئت فاخرج، وإن شئت فاقعد، وإن شئت فصل إلى العصر. وقيل: فانتشروا في الأرض ليس لطلب دنيا، ولكن لعيادة مريض وحضور جنازة، وزيارة أخ في الله تعالى. وقال الحسن، وسعيد بن جبير ومكحول {وابتغوا من فضل الله} هو طلب العلم {واذكروا الله} أي: الذي له الأمر كله {كثيرًا} أي: بحيث لا تغفلون عنه بقلوبكم أصلًا ولا بألسنتكم حتى عند الدخول إلى الخلاء وعند أول الجماع، واستثني من الثاني وقت التلبس بالقذر كوقت قضاء الحاجة والجماع {لعلكم تفلحون} أي: تفوزون بالجنة والنظر إلى وجهه الكريم وعن جابر بن عبد الله «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائمًا يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها، حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلًا» وفي رواية «أنا فيهم» فأنزل الله تعالى: {وإذا رأوا تجارة} أي: حمولًا هي موضع للتجارة {أو لهوًا} أي: ما يلهي عن كل نافع {انفضوا} أي: نفروا متفرقين من العجلة {إليها} أي: التجارة لأنها مطلوبهم دون اللهو، وأيضًا العطف بأو فإفراد الضمير أولى. وقال الزمخشري: تقديره: إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوًا انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. وذكر الكلبي وغيره: أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من الشام عن مجاعة وغلاء سعر، وكان معه جميع ما تحتاج إليه الناس من بر ودقيق وغيره، فنزل عند أحجار الزيت وضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه، فخرج الناس إلا اثنى عشر رجلًا، وقيل: أحد عشر رجلالًا وقال ابن عباس في رواية الكلبي: لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط. وقال الحسن وأبو مالك: أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشوا أن يسبقوا إليه، فلما لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا رهط منهم أبو بكر وعمر فنزلت هذه الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي نارًا».
وقال مقاتل بن حيان، ومقاتل بن سليمان: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بالتجارة وكان إذا قدم المدينة لم يبق بالمدينة عاتق إلا أتته، وكان يقدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق وغيره، فينزل عند أحجار الزيت، وكانت في سوق المدينة ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فخرج إليه الناس ليتبايعوا منه، فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس، ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلًا وامرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا هؤلاء لرميت عليهم الحجارة من السماء» وأنزل الله تعالى هذه الآية والمراد باللهو الطبل.
وقيل: كانت العير إذا قدمت المدينة استقبلوا بالطبل والتصفيق. وقال علقمة: سئل عبد الله أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائمًا أو قاعدًا فقال: أما تقرأ {وتركوك قائمًا} وعن جابر بن عبد الله قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة خطبتين قائمًا يفصل بينهما بجلوس» وذكر أبو داود في مراسيله السبب الذي ترخصوا لأنفسهم في ترك سماع الخطبة، وقد كانوا خليقًا لفضلهم أن لا يفعلوا، فقال: حدثنا محمد بن خالد، قال: حدثنا الوليد، قال: أخبرني أبو معاذ بكير بن معروف أنه سمع مقاتل بن حبان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة كالعيدين، حتى كان يوم جمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل يقال له: دحية بن خليفة قدم بتجارة، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفوف فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة الخطبة وأخر الصلاة، وكان لا يخرج أحد لرعاف أو حدث بعد النهي حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام، فيأذن له النبي صلى الله عليه وسلم ثم يشير إليه بيده، فكان في المنافقين من تثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد، فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه مستترًا به حتى يخرج فأنزل الله تعالى: {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذًا} [النور] الآية. قال السهيلي: وهذا الخبر وإن لم ينقل من وجه ثابت فالظن الجميل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوجب أن يكون صحيحًا وقال قتادة: وبلغنا أنهم فعلوه ثلاث مرات كل مرة عير تقدم من الشام، وكل ذلك يوافق يوم الجمعة.
وقيل: إن خروجهم لقدوم دحية بتجارته ونظرهم إلى العير، وهي تمر لهو لا فائدة فيه إلا أنه كان مما لا إثم فيه لو وقع على ذلك الوجه، ولكنه لما اتصل به الإعراض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والانفضاض عن حضرته غلظ وكبر، ونزل فيه من القرآن وتهجينه باسم اللهو ما نزل. وقوله تعالى: {وتركوك} أي: تخطب حتى بقيت في اثني عشر رجلًا، قال جابر: أنا أحدهم {قائمًا} جملة حالية من فاعل انفضوا، وقد مقدرة عند بعضهم.
تنبيه:
في قوله تعالى: {قائمًا} تنبيه على مشروعيته في الخطبتين، وهو من الشروط للقادر على القيام، وأما أركانهما فخمسة: حمد الله تعالى، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بلفظهما، ووصية بتقوى الله، وهذه الثلاثة في كل من الخطبتين، وقراءة آية مفهمة ولو في إحداهما والأولى أولى، ودعاء للمؤمنين والمؤمنات في ثانية، ومن الشروط كونهما عربيتين، وكونهما في الوقت، وولاء، وطهر، وستر كالصلاة {قل} يا أشرف الخلق للمؤمنين {ما عند الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {خير} ما موصولة مبتدأ وخير خبرها {من اللهو ومن التجارة} والمعنى: ما عند الله تعالى من ثواب صلاتكم خير من لذة لهوكم، وفائدة تجارتكم. وقيل: ما عند الله من رزقكم الذي قسمه لكم خير مما اقتسمتموه من لهوكم وتجارتكم {والله} أي: ذو الجلال والإكرام وحده {خير الرازقين} أي: خير من رزق وأعطى فاطلبوا منه، واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة. وما قاله البيضاوي تبعًا للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الجمعة أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة ومن لم يأتها في أمصار المسلمين» حديث موضوع. اهـ.